خلف يرحل وحيداً
رضي الموسوي
جريدة الوقت العدد 388 15 مارس 2007
في الحياة أناس يمرون علينا بسرعة كبيرة لكنهم يتركون أثراً أكثر مما يتركه عديد من الأحياء. هؤلاء الذين يمرون بسرعة، يصعب تصنيفهم وفق التقسيمات الصنمية الجاهزة، أو حتى وفق التقسيمات الزئبقية سريعة الحركة والتشكل.
خلف زين الدين، واحد من هؤلاء الذين رحلوا عنا قبل أيام وهو بعيد عن وطنه، إذ كان يقيم في دولة الإمارات منذ مطلع الثمانينات حين قرر الهجرة والعيش وحيداً بعيداً عن أهله وأصدقائه.
لكنه وطيلة حياته لم يكن ساكناً، كان يحلم مثل أبناء جيله الستيني، بوطن أكثر عدالة وأقل مآزق وأزمات. ومن يحمل حلما كهذا فإن عليه دفع الثمن بما فيه السجن والغربة والعيش في أحلك الظروف، لذلك دخل السجن في العام 1961 عندما كان مع رفاقه يهتفون فرحاً بالنصر للثورة الجزائرية ابنة المليون شهيد. كان وقتها في مقاعد مدرسة الثانوية بالمنامة، واحتجز لثمانية أيام مع زملائه عقاباً لهم على تأييدهم لثوار الجزائر. وفي انتفاضة 5 مارس ,1965 أفلت من قبضة الأمن وغادر لدولة مجاورة فقامت بالمهمة واعتقلته قرابة العام، ليعود مرة أخرى، ويعتقل نهاية الستينات على خلفية الضربة التي وجهت لتنظيم شرق الجزيرة مع مجموعة من رفاقه الحالمين بظروف أفضل. بعد قرابة العام أفرج عنه وقرر مغادرة البلاد، إلى أين يا خلف؟ قال إلى حلم يمكن تحقيقه.. إلى مدارس الثورة مع الذين نكروا ذاتهم وقرروا السير في درب عسير. يمكث هناك نحو عام آخر، ويرحل إلى الاتحاد السوفياتي ليكمل دراسته، لكنه يعود بعد عامين إلى الوطن ليهدأ ويستقر قليلاً.
لا بأس، فالاستقرار يحتاج واحدا مثل خلف، فقد أمضى سنوات يحلق في سماء العواصم التي لم يحتملها، لكن التوقيت ليس للاستقرار هنا، فنحن في منتصف السبعينات وما بعدها من سنوات معتمة. أذاً الرحيل يا خلف مرة أخرى. ولكن إلى أين؟ فمدارس الثورة قصفها الانجليز وشاه إيران ولم يعد هناك أراض محررة في ظفار. إن لم يكن عمان الداخل، فلا بأس في عمان الساحل.. إلى الإمارات والوقت كان مطلع الثمانينات.. يبقى هناك ويستقر وكأنه قرر عدم العودة للبحرين إلا وهو جثة هامدة.
عزة النفس والكبرياء حتى العناد، كانت تلك أهم صفات خلف. كان أكرم الكرماء وهو لا يملك شيئا. قال لي في العام ,1990 وأنا قد أبعدت لتوي إلى الإمارات بعد أيام في ضيافة سجن القلعة ‘’لا تقلق يا رضي هذا الخبز يكفي لأربعة غيرنا، وهذا المكان يتسع لعشرة آخرين’’.
بقي خلف في الإمارات حتى وفاته ودفناه قبل ثلاثة أيام في منتصف الليل.. فليرحمه الله. فقد عاش وحيداً ومات وحيداً وغريبا.